عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» رواه البخاري في كتاب الصلح، وفي رواية مسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
قال ابن رجب: هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، كما أن حديث الأعمال بالنيات ميزان للأعمال في باطنها، وهو ميزان للأعمال في ظاهرها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء.
وهذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمراد بأمره هاهنا دينه وشرعه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»، فالمعنى إذا أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس متقيدا بالشرع فهو مردود، وقوله ليس عليه أمرنا إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشريعة موافقا لها فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك فهو مردود، فأما العبادات فما كان منها خارجا عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله تعالى: {أمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}، فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية.
وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائما في الشمس، فسأل عنه فقيل إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه، فلم يجعل قيامه وبروزه في الشمس قربة يوفي بنذرهما، وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إعظاما لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة يوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك كله ما وردت به الشريعة في مواضعها، وكذلك من تقرب بعبادة نُهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي.
وأما من عمل عملا أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع أو أخل فيه بمشروع فهذا أيضا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أو لا، فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع أو بالسجود مع الطمأنينة فيهما، فهذا عمل مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضا، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعلها شرطا، فهذا لا يقال إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص، وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردودا، كمن زاد ركعة عمدا في صلاته مثلا، وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعا أو صام الليل مع النهار وواصل في صيامه -جامع العلوم والحكم: 1/59.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.